الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.المدلول العلمي للآية الكريمة: بما أن المخاطبين بالقرآن الكريم هم أهل الأرض جميعا، فمن المنطقي أن يكون المقصود بالتعبير القرآني رب المشارق والمغارب هو مشارق الأرض ومغاربها؛ ولكن بما أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما، فإن دلالة الآية الكريمة تتسع لتشمل مشارق ومغارب كل أجرام السماء، وعلي ذلك فلابد من فهم دلالة الآية الكريمة في هذين الإطارين علي النحو التالي:أولها: المشارق والمغارب بالنسبة إلى الأرض:(1) مشرق الأرض ومغربها:علي الرغم من أن كل ما في صفحة السماء من أجرام يدور حول محوره، ويسبح جاريا في مداره إلا أن النجم القطبي يبدو ثابتا في مكانه بالنسبة للأرض، ولا يشترك في الدوران الظاهري لقبة السماء وما بها من نجوم، والناتج عن دوران الأرض حول محورها من الغرب إلى الشرق دورة كاملة في كل أربع وعشرين ساعة (في زماننا الراهن). والسبب في ذلك هو أن النجم القطبي يقع علي امتداد محور دوران الأرض حول نفسها تماما، وبذلك يحدد لنا اتجاه الشمال الحقيقي (والمعروف باسم الشمالي الجغرافي)، ويتعامد علي هذا الاتجاه يمينا شرق الأرض. ويسارا غربها أي اتجاه الشرق الحقيقي والغرب الحقيقي بالنسبة للأرض ككوكب، ويتضح من ذلك جانب من جوانب الحكمة الإلهية المبدعة بخلق هذه العلاقة حتى يبقي النجم القطبي بمثابة البوصلة الكونية المعلقة في السماء الدنيا لإرشاد أهل الأرض إلى الاتجاهات الأربعة الأصلية، وفي ذلك يقول ربنا-تبارك وتعالى-: {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} (النحل: 16)ويقول: {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا} (المزمل: 9).(2) مشارق الأرض ومغاربها:بدوران الأرض حول محورها دورة كاملة كل أربع وعشرين ساعة (في زماننا الراهن) يتحدد يوم الأرض الذي يتقاسمه الليل والنهار. وبدوران القمر دورة كاملة حول محوره، وحول الأرض في مدة تقدر بحوالي 29,5 يوما يتحدد شهر الأرض القمري الذي يمكن تقسيمه إلى أيام وأسابيع بتتابع مراحل شكل القمر من الميلاد إلى المحاق. ويتم القمر اثنتي عشرة دورة كاملة حول الأرض في كل دورة كاملة للأرض حول الشمس تقريبا وبذلك يتحدد طول السنة القمرية بحوالي 354 يوما، وتقسم إلى اثني عشر شهرا قمريا محددا.وسبح كل من الأرض وقمرها حول الشمس في مدار محدد ليتما دورة كاملة في مدة تقدر بحوالي (365,25) يوما تتحدد السنة الشمسية للأرض، وهي تزيد علي السنة القمرية بحوالي 11 يوما.وبسبب ميل محور دوران الأرض علي الخط الواصل بين مركزي الأرض والشمس تتبادل السنة الشمسية فصول أربعة هي الربيع والصيف والخريف والشتاء. وبواسطة تتابع بروج السماء التي تمر بها الأرض في أثناء سبحها في مدارها حول الشمس يمكن تقسيم السنة الشمسية إلى شهورها الاثني عشر.وكان قدماء المصريين قد قدروا السنة الشمسية بحوالي 365 يوما، وتلاهم البابليون في الربط بين محيط الدائرة الذي يبلغ 360 درجة، وبين عدد أيام السنة الشمسية، وشكل هذا الربط أساس تقسيمات الساعة إلى 60 دقيقة، والدقيقة إلى 60 ثانية.وكانت ملاحظة تغير المواقع الظاهرية للشمس بالنهار بين شروقها وغروبها وسيلة من وسائل إدراك مرور الزمن وتتبع حركته.وبفعل دوران الأرض حول محورها دورة كاملة كل أربع وعشرين ساعة، فإن مساحة نصف الكرة الأرضية المغمور بنور النهار تتناقص من أحد طرفيها بولوجه في ظلمة الليل، وتتزايد بنفس القدر من الطرف الآخر الذي يخرج من ظلمة الليل إلى نور النهار، ويستمر الحال كذلك في تبادل بطيء حتى يعم نور النهار نصف الأرض الذي كان مظلما، ويعم ظلام الليل نصفها الذي كان منيرا، ومن هنا تتعدد المشارق والمغارب علي خط العرض الواحد، ويتأخر شروق الشمس كلما اتجهنا إلى الغرب. ولما كانت الأرض تدور حول محورها دورة كاملة أي (360) درجة كل 24 ساعة، فإن ضوء الشمس ينتقل 15 درجة من درجات خطوط الطول في الساعة الواحدة من الشرق إلى الغرب، أي بمعدل 4 دقائق لخط الطول الواحد؛ ومعني ذلك أن الفرق الزمني الناشئ عن اختلاف خطوط الطول علي خط العرض الواحد يقدر بأربع دقائق لكل درجة من درجات خطوط الطول، ويضاف هذا الفرق إذا كان الموقع في نصف الأرض الشرقي، ويطرح إذا كان في نصفها الغربي. ويعتبر خط الطول (180) هو الخط العالمي للتاريخ، وباجتيازه من الشرق إلى الغرب يتأخر الزمن يوما كاملا؛ ويتعرج الخط العالمي للتاريخ شرقا وغربا عبر خط طول (180) وذلك بتأثير خطوط العرض، ويمر من مضيق بيرنج شمالا إلى شرق جزيرة نيوزيلندا جنوبا.ويتغير الزمن من موقع لآخر علي طول خط الاستواء بسبب الانتقال من خط طول إلى خط طول آخر بعد أربع دقائق, أما الاختلاف في الزمن- وبالتالي في لحظتي شروق الشمس وغروبها- عند الانتقال من خط الاستواء إلى خطوط العرض شمالا وجنوبا فهو أكبر من الانتقال علي خط العرض الواحد وذلك لأن الانتقال عبر خطوط العرض له أبلغ الأثر علي زمني شروق وغروب الشمس، وهذا الأثر ليس ثابتا علي مر الأيام بسبب ميل محور دوران الأرض، كما أنه لا يتناسب تناسبا طرديا مع فروق خطوط العرض، ويتضح ذلك من أن مقدار الفرق الزمني لكل من شروق وغروب الشمس بين خطي العرض 50 و60 درجة شمالا أكبر بأضعاف كثيرة من مقدار الفرق الزمني بين خطي عرض 10 و20 شمالا.أضف إلى ذلك أن هذه الفروق غير ثابتة علي مدار السنة مما يعدد مشارق الأرض ومغاربها إلى أرقام لا تكاد تدرك.والفروق بين أزمنة الشروق والغروب في نفس اليوم عند موقعين علي خط طول واحد- ولكنهما علي خطي عرض مختلفين- هي أقل من الفروق بين موقعين بينهما نفس القيمة في مقدار خطي العرض، بينما يقعان علي خطي طول مختلفين.كذلك إذا حسبنا زمني شروق وغروب الشمس في المكان الواحد من سطح الأرض علي مدار السنة، فإننا نجدهما يتغيران تغيرا كبيرا خاصة عند خطوط العرض العليا. فالمكان الواحد علي سطح الأرض له مشارق ومغارب عديدة علي مدار السنة.والحركة الظاهرية للشمس في مستوي دائرة البروج تؤثر في مقدار الميل الاستوائي لها، وتجعله يتغير من يوم إلى يوم آخر؛ والميل الاستوائي له تأثير كبير في تحديد مكان وزمان لحظتي الشروق والغروب للشمس، ويزداد ذلك بزيادة قيم خطوط العرض.وقد تتحد نقاط علي خطوط طول وعرض مختلفة في لحظتي الشروق والغروب، والخطوط الواصلة بينها تعرف باسم خطوط اتحاد المطالع أو خطوط اتحاد المغارب، وهذه الخطوط يختلف شكلها من يوم إلى آخر: وهي في اليوم الواحد تكون موازية لبعضها البعض.في 3/21 من كل عام يقع الاعتدال الربيعي، وفي 9/23 يقع الاعتدال الخريفي في نصف الكرة الشمالي فيتساوي الليل والنهار لتعامد أشعة الشمس علي خط الاستواء.وفي 6/21 من كل عام يقع الانقلاب الصيفي في نصف الكرة الشمالي لتعامد أشعة الشمس علي مدار السرطان، ويكون النهار أطول نهار في السنة وتتمتع المنطقة الواقعة حول القطب الشمالي بنهار يدوم 24 ساعة، ويحل ليل مدته 24 ساعة علي المناطق الواقعة حول القطب الجنوبي.ويكون النهار أقصر ما يكون في نصف الكرة الجنوبي في 6/21 أما عند خط الاستواء فيتساوي طول كل من الليل والنهار علي مدار السنة.في 12/22 من كل عام يقع الانقلاب الشتوي في نصف الكرة الشمالي حيث تتعامد أشعة الشمس علي مدار الجدي، وتتمتع المنطقة حول القطب الجنوبي بنهار يدوم 24 ساعة بينما تتمتع المنطقة حول القطب الشمالي بليل يدوم 24 ساعة كاملة.من هذا الاستعراض يتضح تعدد المشارق والمغارب بتبادل الأيام والفصول علي الموقع الواحد في كل سنة، وبتعدد المواقع علي خط العرض الواحد مع تعدد خطوط الطول، وعلي خط الطول الواحد يتعدد خطوط العرض وبتعدد كل ذلك تتعدد المشارق والمغارب تعددا مذهلا فسبحان القائل رب المشارق والمغارب.3- مشرقا الأرض ومغرباها:نتيجة لدوران الأرض حول محورها انبعجت قليلا عند خط الاستواء، وتفلطحت قليلا عند القطبين، ونتيجة لذلك أصبح لكل من المشارق والمغارب العديدة نهايتان تمثلان أقصي زمانين ومكانين لكل من شروق الشمس وغروبها علي أقصي بقعتين من بقاع الأرض تمثل كل منهما مرة أقصي الشروق، ومرة أقصي الغروب، ومن هنا كان للأرض مشرقان ومغربان وسبحان القائل {رب المشرقين ورب المغربين}.ثانيا: المشارق والمغارب بالنسبة لباقي أجرام السماء:من الواضح أن المؤثرات السابقة كلها علي زمني ومكاني شروق وغروب الشمس تشترك في التأثير علي زمني ومكاني شروق وغروب القمر، ويزيد عليهما بالنسبة للقمر عامل آخر هو مقدار خط عرض القمر السماوي، وهو يتغير في حدود 5 درجات تقريبا إيجابا وسلبا، وعندما يكون خط العرض السماوي للقمر صفرا فإنه يتحد في غروبه مع الشمس، وبذلك يكون للقمر العديد من المشارق والمغارب كما يكون له مشرق ومغرب، ونهايتان لكل من شروقه وغروبه، وكذلك الحال مع بقية أجرام السماء والتي نتيجة لتكورها ولدورانها حول محاورها، ولسبحها حول أجرام أكبر فإن مشارقها ومغاربها تتعدد تعددا كبيرا، مع وجود نهايتين عظميين لكل من الشروق والغروب، ووجود اتجاهات أصلية لكل جرم سماوي تحدد له شرقه وغربه.من هنا جاءت الإشارة في كتاب الله إلى كل من المشرق والمغرب بالإفراد وبالمثني وبالجمع تأكيدا علي العديد من حقائق الأرض وحقائق أجرام السماء، وهي حقائق لم تدرك إلا في زمن العلم الذي نعيشه، فسبحان الذي أنزل القرآن الكريم بعلمه، علي خاتم أنبيائه ورسله، وتعهد لنا بحفظه فحفظه لنا بنفس لغة وحيه (اللغة العربية), وحفظه حفظا كاملا: كلمة كلمة وحرفا حرفا بكل إشراقاته الربانية، وحقائقه النورانية في كل قضية عرض لها حتى يبقي حجة علي أهل عصرنا من المسلمين وغير المسلمين، وشاهدا علي طبيعته الربانية، وعلي صدق نبوة الرسول الخاتم والنبي الخاتم الذي تلقاه فالحمد لله علي نعمة الإسلام، والحمد لله علي نعمة القرآن والحمد لله إلى آخر الزمان، والصلاة والسلام علي أنبياء الله ورسله أجمعين، وعلي خاتمهم وإمامهم: سيد الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد النبي الأمين وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين. اهـ.
|